سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


قوله تعالى: {ولقد صرَّفْنا للناس في هذا القرآن} قد فسَّرناه في هذه السورة [الاسراء: 41]، والمعنى: من كل مَثَل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار {فأبى أكثر الناس} يعني أهل مكة {إِلا كُفوراً} أي: جحوداً للحق وإِنكاراً.
قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض يَنبوعا} سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، أن رؤساء قريش، كعُتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إِلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذَروا فيه، فبعثوا إِليه: إِن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلِّموك، فجاءهم سريعاً، وكان حريصاً على رشدهم، فقالوا: يا محمد، إِنا والله لا نَعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إِنما جئتَ بهذا لتطلب مالاً، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً، وإِن كنتَ إِنما تطلب الشرف فينا، سوَّدناك علينا، وإِن كان هذا الرَّئِيُّ الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطِّب لك حتى نُبْرِئك منه، أو نُعْذَر فيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن تقبلوا مِنِّي ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإِن تردُّوه عليَّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم». قالوا: يا محمد، فإن كنتَ غير قابل مِنّا ما عرضنا، فقد علمتَ أنه ليس من الناس أحد أضيقَ بلاداً ولا أشد عيشاً منا، سل لنا ربك يُسيِّر لنا هذه الجبال التي ضيِّقت علينا، ويُجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا، ولْيكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول: أحق هو؟ فإن فعلتَ صدَّقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بُعثتُ، وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به»؛ قالوا: فَسَلْ ربَّك أن يبعثَ مَلَكاً يصدِّقك، وسله أن يجعل لك جِناناً، وكنوزاً، وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك؛ قال: «ما أنا بالذي يسأل ربه هذا»؛ قالوا: فأسقط السماء علينا كما زعمت بأن ربَّك إِن شاء فعل؛ فقال: «ذلك إِلى الله عز وجل»؛ فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً، وقال عبد الله بن أبي أُمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إِلى السماء سُلَّماً، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً لِمَا رأى من مباعدتهم إِياه، فأنزل الله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك...} الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس.
قوله تعالى: {حتى تفجر} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {حتى تُفَجِّرَ} بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {حتى تَفْجُرَ} بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف. فمن ثقَّل، أراد كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفَّف، فلأن الينبوع واحد. فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها؛ قال أبو عبيدة: هو يَفعول، من نبع الماء، أي: ظهر وفار.
قوله تعالى: {أو تكونَ لك جَنَّة} أي: بستان {فتفجر الأنهار} أي: تفتحها وتجريها {خلالها} أي: وسط تلك الجنة.
قوله تعالى: {أو تُسْقطَ السماء} وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: {أو تَسقُط} بفتح التاء، ورفع القاف {السماءُ} بالرفع.
قوله تعالى: {كِسفاً} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {كِسْفاً} بتسكين السين في جميع القرآن إِلا في [الروم: 48] فإنهم حرَّكوا السين. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين. وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها. قال الزجاج: من قرأ {كِسَفاً} بفتح السين، جعلها جمع كِسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ {كِسْفاً} بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أَسْقِطها طبقاً علينا؛ واشتقاقه من كسفتُ الشيء: إِذا غطيَّته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة. وقال ابن الأنباري: من سكَّن قال: تأويله: ستراً وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إِذا غطاها ما يحول بين الناظرين إِليها وبين أنوارها.
قوله تعالى: {أو تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: عياناً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل. وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة، أي: معاينة، وأنشد للأعشى:
نُصَالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوؤُوا بِمِثْلِهَا *** كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا
أي: قابِلَتُها. ويروى: وجَّهتْها يعني بدل: يسرتها.
والثاني: كفيلاً أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء؛ تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت.
والثالث: قبيلةً قبيلةً، كل قبيلة على حِدَتها، قاله الحسن، ومجاهد. فأما الزخرف، فالمراد به الذهب، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في [يونس: 24]، و{ترقى}: بمعنى تصعد؛ يقال: رَقِيتُ أرقَى رُقِيَّاً.
قوله تعالى: {حتى تُنَزِّل علينا كتاباً} قال ابن عباس: كتاباً من رب العالمين إِلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه.
قوله تعالى: {قل سبحان ربي} قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {قل}. وقرأ ابن كثير، وابن عامر: {قال}، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام، {هل كنتُ إِلا بشراً رسولاً}، أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر.
فإن قيل: لِم اقتصر على حكاية {قالوا} من غير إِيضاح الرد؟
فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} فلم يكن في وسعهم، عجَّزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوَّتي، ومن ذلك التحدِّي بمثل هذا القرآن، فأما عَنَتُكم فليس في وسعي، ولأنهم ألحُّوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسألَ ربه، فردَّ قولهم بكونه بشراً، فكفى ذلك في الردِّ.


قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا} قال ابن عباس: يريد أهل مكة. قال المفسرون: ومعنى الآية: وما منعهم من الإِيمان {إِذ جاءهم الهُدى} وهو البيان والإِرشاد في القرآن {إِلا أن قالوا} أي: إِلا قولهم في التعجب والإِنكار: {أَبَعَثَ الله بَشَراً رسولاً}؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا بعث الله مَلَكاً رسولاً، فأُجيبوا على ذلك بقوله تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين} أي: مستوطنين الأرض. ومعنى الطمأنينة: السكون؛ والمراد من الكلام أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم.
قوله تعالى: {قل كفى بالله شهيداً} قد فسرناه في [الرعد: 43] {إِنه كان بعباده خبيراً بصيراً} قال مقاتل: حين اختص الله محمداً بالرسالة.


قوله تعالى: {من يهدي الله فهوالمهتدي} قرأ نافع، وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحَذَفاها في الوقف. وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في الحالتين. {من يهد الله} قال ابن عباس: من يرد الله هداه {فهو المهتد ومن يُضْلِل فلن تجد لهم أولياء من دونه} يَهدونهم.
قوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه يمشِّيهم على وجوههم، وشاهِده ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة».
والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس.
والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبَّر بقوله: {على وجوههم} عن الإِسراع، كما تقول العرب: قد مَرَّ القوم على وجوههم: إِذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: {عمياً وبكماً وصماً} فيه قولان:
أحدهما: عمياً لا يرون شيئاً يَسرُّهم، وبكماً لا ينطقون بحجَّة، وصماً لا يسمعون شيئاً يسرُّهم، قاله ابن عباس. وقال في رواية: عمياً عن النظر إِلى ما جعل لأوليائه، وبكماً عن مخاطبة الله، وصماً عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول. قال مقاتل: هذا يكون حين يقال لهم: {اخسؤوا فيها} [المؤمنون: 108] فيصيرون عمياً بكماً صماً لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
قوله تعالى: {كلما خَبَتْ} قال ابن عباس: أي: سكنت. قال المفسرون: وذلك أنها تأكلهم، فإذا لم تُبق منهم شيئاً وصاروا فحماً ولم تجد شيئاً تأكله، سكنت، فيُعادُون خلقاً جديداً، فتعود لهم. وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إِذا سكن لهبها. فالَّلهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن الَّلهب، ولم يُطفَأ الجمر، قيل: خَمَدت تَخْمُدُ خُمُوداً، فإن طُفئت ولم يبق منها شيء، قيل: هَمَدت تَهْمُد هُمُوداً. ومعنى {زدناهم سعيراً}: ناراً تتسعر، أي: تتلهَّب. وما بعد هذا قد سبق تفسيره [الاسراء: 49] إِلى قوله: {قادر على أن يخلق مثلهم} أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد ب {مثلهم} إِياهم، وذلك أن مِثْل الشيءِ مساوٍ له، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء، يقال: مِثْلُك لا يفعل هذا، أي: أنت، ومثله قوله: {فان آمنوا بمثل ما آمنتم به} [البقرة: 137]، وقد تم الكلام عند قوله: {مِثلَهم}، ثم قال: {وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه} يعني: أجل البعث {فأبى الظالمون إِلا كُفوراً} أي: جحوداً بذلك الأجل.
قوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} قال الزجاج: المعنى: لو تملكون أنتم، قال المتلمِّس:
وَلَوْ غيرُ أَخْوَالِي أَرَادُوا نَقِيصَتِي *** نَصبْتُ لهم فَوْقَ العرانينِ مِيسَما
المعنى: لو أراد غير أخوالي.
وفي هذه الخزائن قولان:
أحدهما: خزائن الأرزاق. والثاني: خزائن النِّعم، فيخرج في الرحمة قولان. أحدهما: الرِّزق. والثاني: النِّعمة. وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة. {وكان الإِنسان} يعني: الكافر {قتوراً} أي: بخيلاً مُمْسِكاً؛ يقال: قَتَر يَقْتُرُ، وقَتَر يَقْتِرُ: إِذا قصَّر في الإِنفاق. وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد كجود الله تعالى، لأمرين. أحدهما: أنه لا بد أن يُمسِك منه لنفقته ومنفعته. والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزَّه في جُوده عن الحالين.
ثم إِن الله تعالى ذكر إِنكار فرعون آيات موسى، تشبيهاً بحال هؤلاء المشركين، فقال: {ولقد آتينا موسى تسع آيات} وفيها قولان:
أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي: يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال.
أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس؛ يعني بلسانه: أنه كان فيه عقدة فحلَّها الله تعالى له.
والثاني: البحر والجبل الذي نُتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: السّنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة. وقال الحسن: السِّنون ونقص الثمرات آية واحدة.
والرابع: البحر والموت أُرسل عليهم، قاله الحسن، ووهب.
والخامس: الحَجَر والبحر، قاله سعيد بن جبير.
والسادس: لسانه وإِلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك.
والسابع: البحر والسِّنون، قاله محمد بن كعب.
والثامن: ذكره محمد بن إِسحاق عن محمد بن كعب أيضاً، فذكر السبع الآيات الأولى، إِلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله: {اطمس على أموالهم} [يونس: 88].
والثاني: أنها آيات الكتاب، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسّال، أن يهودياً قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبيّ، فقال الآخر: لا تقل: إِنه نبيٌّ، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين؛ فأتَيَاه، فسألاه عن تسع آيات بيِّنات، فقال: «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إِلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تَسرقوا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تمشوا بالبريء إِلى السلطان ليقتلَه، ولا تَسْحَروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف، وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تَعْدُوا في السبتِ»، قال: فقبَّلا يده، وقالا: نشهد أنك نبيّ.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15